امتدت موجة تراجع أسواق الأسهم اليوم لتشكل غالبية بورصات العالم، بعد أن أججها تقرير الوظائف الأميركية يوم الجمعة الماضي، الذي حفز المخاوف من ركود اقتصادي محتمل في أكبر اقتصاد في العالم.
وارتفع معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى 4.3% خلال يوليو/ تموز، ليسجل أعلى مستوى له في 3 سنوات، في ظل تباطؤ كبير في التوظيف، ما زاد من مخاوف تدهور سوق العمل الأميركي ودخول اقتصاد الولايات المتحدة إلى الركود.
خفض الفائدة
وأشار العديد من المحللين والمستثمرين والسياسيين، بما في ذلك الملياردير إيلون ماسك والسيناتور الديمقراطية إليزابيث وارن، إلى أن الفيدرالي الأميركي كان يجب أن يخفض الفائدة في اجتماعه الأسبوع الماضي.
كما اتهم الملياردير الأميركي ومدير صندوق التحوط Pershing Square Capital، بيل أكمان، في منشور على موقع إكس، مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بأنه كان بطيئًا في رفع الفائدة منذ البداية، والآن يتلكأ في خفضها.
ويُجمع المحللون على أن عدم خفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الفائدة خلال اجتماعه الأخير، كان أحد المحفزات الرئيسية لموجة هبوط البورصات، في ظل المؤشرات المتتالية على تباطؤ اقتصاد الولايات المتحدة، ما أثار مخاوف من ركود محتمل.
“إذا عطست أميركا يصاب العالم بالبرد”
ويرى المحلل الفني أشرف فؤاد، أن الأسواق تلوم الفيدرالي الأميركي لعدم خفضه الفائدة في اجتماعه الأخير، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الديون الأميركية، مع مخاوف الركود، وهو ما يأتي في ظل انتخابات الرئاسة الأميركية وحالة التنافس الحادة بين دونالد ترامب وكامالا هاريس، اللذين يحملان توجهات اقتصادية مختلفة تمامًا، ما يرفع من حالة عدم اليقين، مشيرًا إلى المقولة الشهيرة، إذا عطست أميركا يصاب العالم بالبرد.
ويشارك خبير الأسواق والمحلل المالي أشرف العائدي الرأي نفسه، معتبرًا أن هناك أسبابًا عديدة تشابكت معًا، أولها، بداية ظهور علامات التباطؤ، وأحيانًا الانكماش، من البيانات الأميركية مثل الوظائف وتسجيل مؤشر قطاع التصنيع في الولايات المتحدة انكماشًا لشهرين متتاليين، كما تراجع قطاع الخدمات، ما دفع الأسواق لمطالبة الفيدرالي الأميركي بخفض الفائدة، والتأكيد على أن خفضها في سبتمبر/ أيلول بنحو 25 نقطة أساس لن يكون كافيًا، لأن حجم التباطؤ الاقتصادي وصل إلى مرحلة حرجة، لذلك الأسواق في الأسبوع الماضي كانت تسعر 79% لاحتمالية خفض الفائدة بنحو 0.5%، لكن اليوم بعد تداعيات الأسواق تحولت الاحتمالات إلى 60% لخفض الفائدة بنحو 0.75%، ما يعني ثلاثة أضعاف التوقعات السابقة.
اجتماع طارئ للفيدرالي
فيما يرى محلل الأعمال والخبير في أسواق المال العالمية نور الدين الحموري أن أحد الأسباب الرئيسية تكمن في الاختلاف الكبير والمفاجئ لتوقعات الفوائد، وخصوصًا الفارق ما بين الولايات المتحدة الأميركية واليابان، إذ تغيرت التوقعات ما بين اليوم الأول من شهر أغسطس واليوم، لترجح إمكانية خفض الفائدة بواقع 125 نقطة أساس بدلًا من 75 نقطة أساس كانت متوقعة سابقًا.
ويعتقد الحموري أن الحدث الأهم الذي يجب على الأسواق متابعته هو ما إذا كان الفيدرالي الأميركي سيعقد اجتماعًا طارئًا لخفض الفائدة بواقع 25 نقطة أساس مبكرًا عن موعد اجتماعه المقبل نهاية سبتمبر وما إذا كانت الأسواق ستتجاوب إيجابيًا لذلك أم لا؟.
أسهم التكنولوجيا
افتتحت وول ستريت على تراجع حاد، مع هبوط الداو جونز أكثر من 1100 نقطة، فيما تخطت خسائر ناسداك عند الافتتاح 6%، ومؤشر S&P 500 أكثر من 4%، قبل أن تقلص المؤشرات الثلاثة الرئيسية خسائرها.
وقادت أسهم أكبر 7 شركات في قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة التراجعات، مع خسائر قاربت التريليون دولار من قيمتها السوقية خلال بداية التعاملات اليوم الاثنين، قبل أن تعوض بعضًا من خسائرها خلال الجلسة.
وقادت شركة إنفيديا التراجعات بخسائر تخطت 300 مليار دولار من قيمتها السوقية مع بداية الجلسة قبل أن تقلص خسائرها إلى 124.95 مليار دولار، وقت كتابة هذا الخبر.
موجة تصحيح مطلوبة
ويرى العائدي أن هبوط أسهم التكنولوجيا وأشباه الموصلات والرقائق يجعلنا ننظر إلى أسباب ارتفاعها الشديد أولًا، إذ قادت أسهم إنفيديا وAMD ومايكروسوفت موجة صعود الأسواق لفترة، لكن خلال الأسبوعين الماضيين، برزت “علامات تعب” في هذا القطاع، مثل إشارة العديد من شركات القطاع إلى نيتها خفض الإنفاق الرأسمالي.
الكلام نفسه يؤكده الحموري، الذي لفت إلى أن نتائج أعمال شركات القطاع كانت جيدة، لكن معظمها أعلن عن توقعات أقل إيجابية للفترة المقبلة، حتى مع ثورة الذكاء الصناعي، ويرجع ذلك إلى استمرار معدلات الفائدة عند مستوياتها المرتفعة.
ويشير العائدي إلى أن أحد صناديق الاستثمار الشهيرة أكد أن شركة إنفيديا بدأت تظهر علامات الفقاعة، ما مثل مؤشر الخطر، إذ مثّل سهم إنفيديا حجر الأساس لارتفاع وول ستريت خلال موجة الصعود الأخيرة.
ويضيف الحموري أنه لا يجب الحديث عن انهيارات أو أزمات عند النظر إلى الوضع الحالي، معتبرًا أن ما نشهده حاليًا هو مرحلة تصحيح مطلوبة بعد النمو القوي منذ بداية العام، مؤكدًا أن الإفراط في الإيجابية مؤخرًا أدى إلى حركة التصحيح الحالية، والأهم، ألا يكون هناك إفراط في التشاؤم أيضًا، كما حصل مع نهاية العام الماضي.
كما يعتقد فؤاد أن تزامن عدد من العوامل المختلفة في اللحظة الحالية، ساعد على تعميق موجة التراجع، واتساع نطاقها عالميًا.
التطورات الجيوسياسية
لكن فؤاد يعتقد أن هناك سببًا رئيسيًا آخر، وهو الظروف الجيوسياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، إذ لم تشهد المنطقة منذ سنوات تراجعات حادة بهذا الشكل، حتى خلال جائحة كوفيد-19، سواء الأسواق الخليجية أم مصر، ولا حتى على مستوى أسواق الشرق الأوسط، التي لم تشهد هذه الدرجة من الذعر في الأسواق، مع تسجيل مؤشر الخوف في أميركا ارتفاعًا بنحو 120% تقريبًا.
وأضاف فؤاد أن الوضع الجيوسياسي يتميز بالضبابية وعدم الوضوح، مع عدم إعادة ترتيب التحالفات، وتزايد المخاوف من التصعيد العسكري في المنطقة، متذكرًا عبارة “رأس المال جبان” بطبيعته، ما يلزم المستثمرين بالتفكير في إعادة توجيه أموالهم في هذه المرحلة المبهمة.
ويشير فؤاد إلى أن “الكاش هو الملك” في مثل هذه الأوضاع، ما يدفع غالبية المستثمرين إلى تسييل أصولهم حتى تتضح الصورة، لا سيما مع الابتعاد عن الأصول عالية المخاطر.
الين الياباني والأموال الساخنة
وتراجع مؤشر نيكي الياباني 12.4% ليغلق عند 31468 نقطة، مسجلًا أسوأ أداء يومي منذ عام 1987، خلال الانهيار الشهير المعروف باسم الاثنين الأسود.
ولعب قرار بنك اليابان رفع الفائدة الأسبوع الماضي دورًا مهمًا في موجة الهبوط الحالية، إذ أدى إلى انهيار العمليات المعروفة باسم “Carry Trade”، وهي عملية اقتراض الين بمعدلات فائدة تقترب من الصفر وتحويل تلك الأموال إلى عملات أخرى، خصوصًا الدولار، لشراء الأسهم والسندات والأصول الأخرى، مستفيدين من معدلات الفائدة القياسية في الولايات المتحدة.
ويشرح العائدي أن سعر صرف الين الياباني المنخفض مقابل الدولار ومعدلات الفائدة القريبة من الصفر، ساعد على تمويل موجات الصعود في الأسواق الدولية من خلال عملية الـ carry trade، من خلال توفير سيولة كبيرة عبر تلك العملية.
ويشير الخبير الاقتصادي والمحلل المالي محمد رمضان، إلى أن جزءًا مهمًا من الانهيار الحالي في البورصات العالمية، والبورصة اليابانية تحديدًا، هو الأموال الساخنة، فمنذ بداية عام 2023 شهدت اليابان إقبالًا على الأموال الساخنة، مفسرًا بأنها كانت تعاني من ركود اقتصادي فريد من نوعه، ما دفع طوكيو لتبني سياسة الحفاظ على سعر الين منخفض أمام الدولار من خلال معدلات فائدة منخفضة بهدف الحفاظ على تنافسية الصادرات اليابانية، وحماية الاقتصاد من الغرق في معدلات ركود أكبر من التي يعانيها بالفعل على مدار 30 عامًا تقريبًا.
وأضاف رمضان أن بنك اليابان كان يحافظ لهذا السبب على معدلات فائدة صفرية، بل وأحيانًا يخفضها لتصبح بالسالب، ما رفع الطلب على اقتراض الين، إذ كان المستثمرون يحصلون على تلك القروض بالين ويحولوها إلى العملات الأخرى، ويشترون الأسهم والأصول المقومة بالدولار واليورو، خصوصًا في ظل مستويات الفائدة العالية عليهما في الوقت الحالي، ما خلق طلبًا على الدولار، من خلال الأموال المقترضة بالين، وبالتالي طوال العامين الماضيين رأينا الدولار يصعد أمام الين لمستويات تاريخية، ويؤكد رمضان أن ذلك لم يشكل أزمة بالنسبة لحالة اليابان تحديدًا، بل بالعكس، قد كان مطلوبًا بدرجة ما لزيادة تنافسية صادراتها.
ويوضح العائدي أنه عندما رفع بنك اليابان الفائدة للمرة الثانية خلال 17 عامًا، ارتفع سعر صرف الين مقابل العملات الأخرى، ما أدى إلى انهيار هذه العملية، التي كانت تعد أداة رئيسية لتمويل شراء الأسهم والسندات، ما حفز عمليات خروج واسعة للأموال من هذه الأصول، وهذا ما يدعى unwinding of the carry trade.
وفي هذا السياق، يشير رمضان، إلى أنه خلال الأسابيع الماضية، بدأ الين في الصعود، مع تزايد التوقعات بخفض الفيدرالي الفائدة، وتزايد مخاوف الركود، والأهم هو اتجاه بنك اليابان إلى سياسة التشديد النقدي لخفض معدل التضخم الذي لم تشهد اليابان مثيلًا له خلال آخر 30 عامًا (معدل التضخم لا يتجاوز 1% في غالبية السنوات).
ويقول العائدي إن تأثير تلك الموجة في الدولار لم يتضح مداه بعد، وإن كان الين هو الفائز الأكبر حتى اللحظة، إذ صعد في مواجهة العملات الأخرى، لأنه ببساطة كان الخاسر الأكبر عندما كانت شهية المخاطرة مرتفعة، كما يعد ملاذًا آمنًا، لذا سنراه يرتفع على الأغلب خلال الفترة المقبلة.
ويشير رمضان إلى أن تلك العوامل أدت إلى تفكك تجارة العوائد المرتبطة بالين، أو الأموال الساخنة، خصوصًا مع اتجاه بنك اليابان إلى رفع الفائدة فيما يتجه الفيدرالي الأميركي إلى خفضها، ما دفع الأصول المقومة بالين، مثل الأسهم اليابانية للانهيار في ظل توقعات رفع الفائدة، ودفع الأصول المقومة بالدولار، مثل الأسهم الأميركية أيضًا للانهيار، لأنه لم تعد هناك أموال ساخنة ممولة بفوائد الين المنخفضة تضخ لشراء الأصول المقومة بالدولار، وأخيرًا مخاوف ركود الاقتصاد الأميركي.
سهم مجموعة سوفت بنك
وتراجع سهم مجموعة سوفت بنك بنحو 19%، في ظل موجة الهبوط الواسعة التي تشهدها الأسواق العالمية، إذ بدأ سهم المجموعة المعروفة بالاستثمار في شركات التكنولوجيا، في التراجع منذ الخميس الماضي، في أعقاب رفع بنك اليابان معدلات الفائدة الرئيسية للمرة الثانية خلال 17 عامًا.
وتراجعت ثروة مؤسس المجموعة، ماسايوشي سون، بنحو 4.6 مليار دولار، لتسجل 24.3 مليار دولار وفقًا لتقديرات قائمة فوربس اللحظية لمليارديرات العالم.
فرصة ممكنة
ويرى العائدي أن الدولار سيبدأ في التراجع بمجرد انضمام الفيدرالي الأميركي لركب البنوك المركزية التي بدأت في خفض الفائدة بالفعل، فيما سيكون الذهب الفائز الأكبر رغم تراجعه الآن، كما قد تكون العملات المشفرة والبيتكوين، رغم هبوطهم حاليًا، فرصة استثمار جيدة، وسنرى مستويات عالية خلال شهرين إلى ثلاثة أشهر.
فيما يعتقد فؤاد أن الأزمات تصنع الثروات، مشيرًا إلى تراجع الأسواق العالمية بشدة خلال جائحة كوفيد-19 في بدايتها قبل أن تعوض خسائرها سريعًا، وتسجل مستويات قياسية في أعقاب ذلك، لذا لا يجب النظر إلى الجزء السلبي للتراجع الحالي فقط، بل يجب الأخذ في الاعتبار أنها فرصة جيدة لاغتنام الفرص.