تزداد التصريحات في مصر بشأن أزمة الكهرباء وموعد وقف تخفيف الأحمال نهائيًا، ورغم تحسُّن ملحوظ في وضع القطاع المنزلي، فإن المشكلة ما زالت حاضرة بشكلها الأوسع، ففي قلب مشكلة الكهرباء، تقبع مشكلة الغاز، التي عقَّدت من الحل دون خسائر.
فحتى الآن لا تبدو الحكومة قادرة على أن تحدد بدقة أرقام الاستهلاك والعجز في الغاز، أو أن تبرر أسباب التأخر المستمر في التعاقد على شحنات الغاز المسال، رغم تمام العلم بطول أمد الأزمة، وأيضًا لا تستطيع أن تحدد مدى قدرتها على وقف تخفيف الأحمال بشكل جدِّي، أو موعد ضخ الغاز المطلوب للصناعة بطاقته المعتادة، فالمتابع للموقف يستطيع بسهولة رصد تتابع التصريحات بشأن أزمة الكهرباء مند أن أطلّت بوجهها في يونيو/حزيران من العام الماضي (2023).
وبالتدقيق، نجد أن أرقام الاستهلاك التي كانت متداولة سابقًا قد عُدِّلَت عدّة مرات، كما تشير الأرقام الأخيرة المتداولة، والتي أوضحت أن الدولة تستهلك 162 مليون متر مكعب غاز يوميًا لتوليد الكهرباء بحسب تصريحات حكومية وبيانات رسمية، بما يعني 5.67 مليار قدم مكعبة يوميًا، وهو ما يختلف جملة وتفصيلًا عن رقم الـ 3.3 مليار قدم مكعبة الذي صُرِّحَ به في مايو/أيار.
وطبقًا لتصريحات سابقة، يستهلك القطاع الصناعي 2.2 مليار قدم مكعبة غاز يوميًا، وكامل احتياج الدولة، طبقًا للتصريحات الأخيرة، يبلغ نحو 7.9 مليار قدم مكعبة يوميًا على الأقل في فصل الصيف.
ويقابل الاستهلاك المتزايد انحسار في إنتاج الغاز، فإنتاج مصر من الغاز -رغم توقعات وصوله إلى 5.3 مليار قدم مكعبة يوميًا- طبقًا لأحدث الأرقام، بلغ نحو 5 مليارات أو أقل قليلًا، وللأسف يبدو أنه مرشّح لأن يستمر في التراجع.
إنتاج الغاز في مصر
وفقًا للصحفي بيتر ستيفنسن من نشرة “ميس” MEES المتخصصة، فإن أحدث بيانات لوزارة البترول تشير إلى انخفاض إنتاج الغاز المصري لـ4.996 مليار قدم مكعبة يوميًا لشهر مايو/أيار، وهو أدنى مستوى منذ أكثر من 7 سنوات، والمرة الأولى التي تقلّ عن 5 مليارات قدم مكعبة يوميًا منذ مارس/آذار 2017.
ولم يقتصر الأمر فقط على حقل ظهر، أكبر الحقول المصرية، الذي شهد انخفاضًا كبيرًا، بل إن إنتاج حقل ريفين التابع لشركة النفط البريطانية بي بي (ثاني أكبر شركة في البلاد) انخفض إلى النصف خلال الأشهر الـ18 الماضية.
وبإضافة 800 مليون قدم مكعبة يوميًا، تأتي عبر خط أنابيب غاز شرق المتوسط، يتضح أن إجمالي المتوفر من الغاز لمصر -سواء من الإنتاج المحلي أو المستورد من “خط الشرق”- 5.8 مليار قدم مكعبة، وهو ما يشير حال طرحه من رقم الاستهلاك الأخير لوجود عجز يصل إلى 2.1 مليار قدم مكعبة يوميًا.
وعلى الرغم من وجود إشكال في الأرقام المعلَنة التي تسوقها الحكومة، وبصرف النظر أيضًا عن عدم تماشيها مع الأرقام المعلنة سلفًا، ومع الأخذ في الحسبان شحنات الغاز المسال القديمة التي تمّ التعاقد عليها، والجديدة التي ما زالت قيد التنفيذ، يظهر جليًا أن أرقام العجز تحت أيّ تقدير لا يمكن التغلب عليها بالكميات المُعلَن شراؤها دون استمرار قطع الكهرباء، أو توفير 40% من كميات الغاز الموجهة للقطاع الصناعي.
أضف إلى ذلك أن هناك مشكلة فنية في استيراد الغاز المسال بهذه الكميات المتداولة، لأن الحكومة لم تستأجر إلّا وحدة إعادة تغويز “FSRU” واحدة فقط، بجانب الكميات التي تذهب لمحطة إعادة التغويز في ميناء العقبة الأردني، نظير نسبة من الغاز، وهو ما يضع الوحدتين بكامل طاقتهما في حدود الـ 800 مليون قدم مكعبة يوميًا، مما يعجز عن سدّ عجز الـ1.6 مليار قدم مكعبة، الذي أعلنته مصادر حكومية سابقًا، فما بالنا برقم الـ2 مليار قدم مكعبة يوميًا، طبقًا لأرقام العجز الأخيرة؟! و على الرغم من إعلان وزير البترول دراسة شراء وحدة إعادة تغويز جديدة، فإن ذلك الأمر سيتطلب عدّة أعوام.
وقد أعلنت مصر مؤخرًا ترسية مناقصة عالمية جديدة لاستيراد 5 شحنات من الغاز المسال لتغطية احتياجات البلاد في أغسطس/آب الجاري وسبتمبر/أيلول المقبل، كما أشارت مصادر إلى تقييم البلاد حاليًا للاحتياجات المطلوبة للربع الرابع من العام، لطرح مناقصة جديدة في حدود 17 شحنة من الغاز الطبيعي المسال.
وفي هذا الصدد، وفي ظل ما تقدَّم، يدور السؤال حول قدرة البلاد على تحديد الاحتياجات المستقبلية بدقة على المدى القريب، ففي الوقت الذي تسعى فيه الدولة لتأمين احتياجاتها من الغاز حتى نهاية 2024، توجد دول أخرى -مثل تركيا- أعلنت تأمين شحنات غاز مسال حتى 2034 من مصادر مختلفة.
يرصد الرسم البياني التالي، من إعداد وحدة أبحاث الطاقة، تطور واردات مصر من الغاز المسال منذ عام 2015 حتى نهاية يوليو/تموز من عام 2024:
هل تعود مصر لتصدير الغاز المسال؟
على الصعيد الإستراتيجي، لا يبدو الوضع أكثر إشراقًا، فبينما تحدَّث وزير البترول المهندس كريم بدوي -على هامش لقائه مع رئيس منطقة شمال أفريقيا والمشرق العربي بشركة إيني الإيطالية مارتينا أوبيتزي- عن تحول مصر لمركز لتصدير الغاز من حقول الشركة في شرق المتوسط، كان للعضو المنتدب لشركة إيني رأي مختلف.
فقد صرّح العضو المنتدب خلال المؤتمر الربع سنوي الأخير، ردًا على سؤال من مصرف غولدمان ساكس الأميركي حول وضع الأعمال في مصر، بأن احتمال تصدير مصر بعض شحنات الغاز الطبيعي المسال هذا الشتاء بات منخفضًا، وأنه بينما تمتلك مصر إمكانات كبيرة، فإن أمام البلاد “رحلة طويلة” مطلوبة لكي تؤدي دورًا محوريًا في مجال الغاز.
وتسعى الدولة المصرية لتحفيز دورة الاستكشاف، بالتعاون مع الشركاء الأجانب مثل إيني وبي بي، عن طريق جدولة مُعجّلة لسداد المستحقات المتأخرة التي تقدّرها المصادر بنحو 5 مليارات دولار بنهاية النصف الأول من العام الجاري.
ختامًا، ودون شك، الأزمة مركّبة، وترجع في المقام الأول إلى إشكالات في ملف تخطيط الطاقة، و هو أمر للأسف ليس بجديد على بلد اعتاد منذ 40 عامًا الدخول في دورات من العجز والفائض، وجاءت دورة العجز الحالية تحت ضغوط من أولويات الإنفاق بالنسبة للمالية العامة المصرية.
لكن على المدى المتوسط، ما يزيد الأمور تعقيدًا هو وجود مشكلة في صحة واتّساق الأرقام التي من المفترض أن يبني على أساسها المسؤولون التقديرات وخطط التعامل والاستيراد، ففي الوقت الذي تتزايد فيه التصريحات بحل قريب لأزمة الكهرباء، تأتي الأرقام والوقائع لتُظهر دون مواربة أنه لا توجد حلول جذرية تلوح في الأفق القريب لمعضلة إنتاج الغاز في مصر.
*دكتور محمد فؤاد، خبير اقتصادي ونائب سابق بالبرلمان المصري.
اقرأ أيضًا..