في المقال السابق من سلسلة “معضلة الغاز في مصر” تناولت مؤشرات واضحة لبوادر المرور بأزمة في إمدادات الغاز خلال صيف 2025، سوف تحدث لا محالة إذا لم يتم التحرك مبكرًا لاحتوائها، خاصة أن قيمة العجز -في أقل تقدير- تصل إلى مليار قدم مكعبة يوميًا، وهو ما قد يجبر الدولة على تخفيف أحمال الكهرباء لمدة ساعتين يوميًا حينها.

تحدثتُ أن هذا العجز من الصعب تدبيره، لعدم وجود البنية التحتية اللازمة؛ فوحدة إعادة التغويز العائمة الإضافية لم يتم التعاقد عليها، وتحديثات محطة إسالة دمياط لم يتم البدء فيها حتى الآن، ناهيك بصعوبة دخول أي حقول جديدة بشكل معتبر إلى مرحلة الإنتاج خلال الأشهر الـ6 المقبلة، بما يعني أن الحلول قصيرة المدى شبه منحصرة في تأمين شحنات إضافية من الغاز الطبيعي المسال.

حاولت، وقتها، تحليل فرص الإنقاذ المتاحة وخيارات التحرك المطلوبة قبل وقوع المحظور، ومنذ أن نشرت المقال حدثت تطورات شديدة الصلة بما طرحته.

أهم هذه التطورات كان تصريح رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، حول زيادة محتملة لإنتاج حقل ظُهر، وزيادة قدرات حقول شركة النفط البريطانية “بي بي”، ثم مباحثات للتعاقد على شحنات طويلة الأجل من الغاز المسال.

فجوة متزايدة في الاستهلاك

رغم أن كل هذه التصريحات والتحركات أمور إيجابية من شأنها مفاداة جزء من العجز الناتج عن فجوة الاستهلاك المتزايدة، فإنها ليست كافية لسده تمامًا، خاصة أن هناك استحالة في تمكّن ⁠الزيادة المتوقعة في حقل ظُهر من القضاء على كامل العجز -يصل إلى مليار قدم مكعبة يوميًا-، بالإضافة إلى وجود إشكالية فنية في قدرة البنية التحتية الحالية على تغويز طاقة الاستيراد التي سيجري التعاقد عليها.

ويوضح الرسم البياني التالي، الذي أعدّته وحدة أبحاث الطاقة، استهلاك مصر من الغاز في توليد الكهرباء والتدفئة:

وهو ما يؤكّد أهمية الاتفاق الأخير مع الجانب الأردني لاستغلال البنية التحتية للغاز في البلدين، الذي -حسب وكالة الأنباء الأردنية- اشتمل على شروط فنية وتجارية تضمن حقوق الطرفين وتعود عليهما بالفائدة، منها تحديد أولوية استعمال بواخر الغاز بين الجانبين في حال وجود حاجة متزامنة، مع تخصيص 350 مليون قدم مكعبة يوميًا للأردن (50% من قدرة باخرة واحدة، أو 25% من قدرة باخرتين).

ورغم أن تفاصيل الاتفاق مبهمة حتى الآن فإن أهمية تمديد الاتفاق مع الجانب الأردني -كان مفترضاً انتهاؤه في مايو/أيار 2025- تكمن في كونه حاسمًا لضمان استمرار استغلال محطة العقبة ونقلها إلى العين السخنة، رغم تقديم تسهيلات إلى المملكة تعفيها من تكلفة الإيجار والتشغيل وتؤمّن احتياجاتها بأسعار مخفضة.

وبجمع قدرة سفينة التغويز النرويجية المؤجرة من السلطات المصرية مع قدرة سفينة التغويز التي بحوزة الأردن، يمكن تغويز 850 مليونًا إلى 1.2 مليار قدم مكعبة يوميًا (حسب طاقة تغويز السفينتين التي تتباين قدراتهما بين المُصرح به إعلاميًا وما أقره الصانع)، وبإضافة حجم الغاز القادم من إسرائيل (نحو مليار قدم مكعبة)، والزيادة المتوقعة من إنتاج حقول شركتي “بي بي” و”إيني”، فقد يصل إجمالي إنتاج مصر إلى 4.6 مليار قدم مكعبة يوميًا، صعودًا من 4.2 – 4.3 مليار قدم مكعبة حاليًا (بحسب منصة جودي JODI).

الرسم التالي من إعداد وحدة أبحاث الطاقة يرصد إنتاج مصر من الغاز الطبيعي شهريًا بين عامي 2022 و2024، مع ملاحظة أن مليار متر مكعب يعادل 35.3 مليار قدم مكعبة:

إنتاج مصر من الغاز الطبيعي حتى سبتمبر 2024

وسيصبح أقصى ما يمكن توفيره 6.5 – 6.8 مليار قدم مكعبة يوميًا، وبالنظر إلى أن حجم الطلب المتوقع يوميًا في أشهر الصيف يصل إلى 7.4 مليار قدم مكعبة، فالإشكالية ما تزال موجودة رغم كل ذلك، لكن بحدة منخفضة للغاية، يمكن تداركها ببعض المناورات بين الاستهلاكَيْن الصناعي والمنزلي.

سيناريو تخفيف الأحمال

في تقديري -مع عجز في حدود نصف مليار قدم مكعبة يوميًا-، سوف نكون أمام سيناريو تخفيف أحمال منخفض للغاية خلال صيف 2025، في ظل اتخاذ احتياطات لتفادي جزء كبير من الأزمة، والتعامل المبكر مع البوادر التي ذكرتها تفصيلًا في المقال السابق (معضلة الغاز في مصر -2).

وبفرض تنفيذ ما سبق بشكله المقترح، فإن الإشكالية سوف تنتقل إلى صيف 2026، خاصة مع انتهاء عقد سفينة إعادة التغويز النرويجية في فبراير/شباط، لكن بحكم الوقت فالمدة ما تزال كافية لدخول حقول جديدة مرحلة الإنتاج، شريطة سداد مستحقات الشركات الأجنبية العاملة، وإما الاستمرار في التعاقد على شحنات طويلة المدى من الغاز المسال، مع تجديد عقود منصات التغويز.

في الحقيقة، إن كل ما سلف ذكره يندرج تحت بند الشطط الإداري ومدرسة إطفاء الحرائق في التعامل مع الأزمات، دون تخطيط متقن بأسلوب علمي يناسب قدر ملف الطاقة، وهو ما يؤكد أن الحكومة المصرية يجب أن تتصرف بصورة إستراتيجية، فنحن في دولة ولسنا “منزلًا” أو “كشكًا” يلبي احتياجاته يومًا بعد يوم.

يؤكد ذلك أيضًا أن مصر بحاجة إلى نظرة علمية لملف الطاقة، بتشكيل لجنة عليا أو إدارة خاصة لتخطيط الطاقة (Energy Management Committee)، تكون معنية بعمل إستراتيجية وطنية متكاملة للطاقة تستهدف تعظيم استعمال الموارد وتنويع سلة الطاقة وإدارة التعاقدات المبكرة على الشحنات، من أجل تخفيف حدة دورات العجز والفائض على المدى الطويل، على غرار المتبع عالميًا في هذا الصدد.

فلن يجري حل مشكلات الطاقة بالحلول قصيرة الأجل فقط، ولا بالتمني.. فالتمني ذاته يستهلك الطاقة نفسها التي يستهلكها التخطيط.

*دكتور محمد فؤاد، خبير اقتصادي ونائب سابق في البرلمان المصري.

*هذا المقال يعبّر عن رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.

نرشح لكم السلسلة التالية..

كما نرشح لكم..

  • تقارير وتغطيات حصرية لوحدة أبحاث الطاقة (هنا).
  • التقرير ربع السنوي عن أسواق الغاز المسال العربية والعالمية (هنا)
إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.

رابط المصدر

شاركها.